أن تتبقى عدة ساعات فقط على مباراتك النهائية لتحصدي الميدالية الذهبية وتصبحي بطلة العالم، لقد تدربتِ جيداً ولا يفصلكِ عن هذا اللقب سوى شيء من الزمن، حصلتِ العام الماضي على الميدالية الفضية، ولن تسمحي لأحد أن يسلب منكِ اللقب هذا العام … فجأة، يضيع كل شيء!
ما الذي يحدث؟ ثمة إعلان ما، تستبعدكِ الرابطة الدولي للملاكمة من مباراة الميدالية الذهبية؛ لأنك لا تستوفين المعايير الأهلية المطلوبة، أي معايير؟
تعودين أدراجك، وقلبك يتأرجح بين التعجب والحزن، تودين الصراخ، أنتِ تتذكرين كل شيءٍ منذ البداية، تتذكرين قريتك الصغيرة التي لم تسمح للفتيات بممارسة ألعاب القوى، تتذكرين اضطرارك للسفر عشرة كيلومترات من أجل الوصول إلى نادي الملاكمة، وأجرة الحافلة التي من أجل سدادها اضطررتِ لبيع المعادن الخردة، وساعدتكِ والدتك على السداد.
لقد مررتِ بالكثير، ولا يمكن أن تكون تلك هي النهاية! وسط عَبَراتك المتساقطة يتخلل طيف أولمبياد ريو 2016 أمامك، وكيف كانت مشاهدتكِ له هي الوقود الذي ألهب حماسكِ من أجل تلك اللعبة، لم ينتهِ الأمر بعد، من الأولمبياد بدأتُ، وإلى الأولمبياد سأعود، لتكون إيمان خليف بطلة أولمبياد باريس 2024!
شهدت سنة 1928 مزيداً من الحرية للنساء في الألعاب الأولمبية، فبعد أن كان لا يُسمَح لهن إلا بالمشاركة في الألعاب التي لا تُقلل من أنوثتهن -على حد ما اشتُهر وقتئذٍ - كالسباحة، والتنس، جاءت 1928 لتسمح لهن بالنزول إلى المضمار والميدان، مُنِحت النساء جزءاً من الحرية، ليُسلَب منهن جزء آخر.
لم تسلم النساء المُشارِكات في حلبات السباق من التعليقات السخيفة من الصحافة، ووصفهن بأنهن على وشك التحول إلى رجال، ولأن وقتها كان مبكراً جداً عقب اكتشاف المادة الوراثية DNA خارج الأوساط العلمية، فقد ساد تصور أن الإنسان مكونٌ من كلا الجنسين بنسبة ما، وأن فعل شيء ما، أو ممارسة رياضات بعينها قد تخل بهذا التوازن، وتحول الأنثى إلى ذكر.
مع كل مرة تبزغ فيها شمس امرأة في ألعاب تحتاج إلى القوة، تنهال المزيد من الاتهامات عليهن بأن ممارسة الرياضة تقلل من أنوثتها وتحول أعضاءها إلى رجل، وغيرها من تعليقات الكراهية. لم يقتصر الأمر على مجرد القيل والقال.
في عام 1936 صدرت السياسة الرسمية الأولى من الاتحاد الدولي لألعاب القوى العالمي بإجراء فحص للنساء المشكوك في أنوثتهن، ولم يكن ثمة قواعد لهذا الشك، لقد كان نوعاً من «عندما تراها، سوف تعرفها» تضمنت تلك السياسة فحص النساء عاريات أمام لجنة تضمنت مرة شخصاً واحداً، ومرات أكثر من شخص، ليتأكدوا أن جسد اللاعبة لائق بجسد امرأة.
استمرت تلك السياسة المهينة عشرين عاماً حتى عام 1966، حين اتسع الأمر ليخرج من دائرة النساء المشكوك فيهن، واتسعت معه دائرة المهانة، لتصبح السياسة إلزامية على كل النساء المشاركات في الألعاب الأولمبية.
تغيرت السياسة في عام 1968 لتصبح اختباراً كروموسومياً لتحديد الجنس البيولوجي للمشاركة، واستمر الأمر حتى عام 1999 قبل أن يُلغى هو الآخر.
أُلغي الاختبار الجيني من أجل منح النساء مزيداً من النزاهة والعدالة، واليوم في أولميباد 2024 لا توجد سياسة بعينها تسري على كل الألعاب، بل يختص كل اتحاد بقوانينه، يسمح البعض بمشاركة الفئات المغايرة جنسياً، بينما لا يسمح البعض الآخر. فما معنى أن يملك الشخص جنساً بيولوجياً مختلفاً عن جنسه الذي عاش به طيلة حياته؟
في علم البيولوجيا، تُصنَّف الكائنات الحية جنسياً في المقام الأول حسب التركيب الجيني، يملك الإنسان ملايين من الجينات، لكن القليل فقط منها هو ما يظهر على السطح وتصنع شكله الذي يراه الناس.
لنبسِّط الأمر، سأذكرك بلعبة ارتداء الفتيات، التي كنا نحبها كثيراً وقت طفولتنا.
تبدأ لعبتك وأمامك الأميرة التي تختار لون شعرها، طوله، لون عيونها، شكل أنفها، وهلم جراً، تظهر أمامك في اللعبة عشرات الخيارات، لكنك تختار واحداً فقط، هكذا الجينات، إن مخزون الجينات الموجود لدى الإنسان يضاهي خيارات اللعبة تلك.
لدى الإنسان جينات بكل ألوان العيون، وبكل أشكال الأنوف، لكن هناك قوانين لتلك اللعبة، في كل مرة تلعبها سأضيق عليك الخناق في الاختيارات، وتكون ملزماً بالاختيار بين عنصرين عشوائيين فقط من كل فئة، مثل لوني عيون فقط.
إن كل مرة تلعبها تمثل عملية التزاوج، وكل عنصرين تُلزَم بهما يُمثلان نسخة الجينات التي يشارك بها الأبوان؛ فعند التزاوج تنتقل نسخة معينة من كل جين من الأبوين إلى الأبناء أما تلك القوانين التي أُلزمت بها فتُسمى قوانين الوراثة.
تُرتب كل مجموعة معينة من الجينات الحاملة الصفات معاً على ما يُسمَّى الصبغي/الكروموسوم، يملك الإنسان 44 كروموسوماً يحمل صفات جسدية، بينما يحمل اثنان آخران صفات جنسية، وهما X وY.
إذا أردنا حصْر الخيارات المتاحة فقد يملك الإنسان الكروموسومين معاً XY أو كروموسومين من النوع نفسه، كأن يملك XX أو YY لكن الخيار الأخير غير متاح، لأن الكروموسوم X يحمل صفات جسدية ضرورية للحياة، ومن ثم أي جنين يتكون من YY يموت على الفور؛ لافتقاره لتلك الصفات. إذن لدينا خياران، إما أن ينشأ الجنين XY ليصبح ذكراً، أو يكون XX لتكبر أنثى.
من الناحية التشريحية يملك الإنسان أعضاءً تناسلية داخلية (مثل الخصية في الذكر والرحم في الأنثى)، وأخرى خارجية (مثل القضيب في الذكر والمهبل في الأنثى). تتحكم الكروموسومات الجنسية في نشأة تلك الأعضاء عبر إفراز هرمونات مختلفة، على فترات متغايرة من نمو الجنين.
قد تحدث عدة عيوب تعرقل سلامة تلك العملية، فينتج عنها أن يملك الإنسان أعضاءً جنسية داخلية ذكرية مع أخرى خارجية أنثوية، أو العكس بالعكس، أو قد يملك نسخة من كلا النوعين، مع بروز إحداها على الأخرى، الأمر الذي يُؤخِّر اكتشاف الأمر.
بعبارة أوضح من نظرة تشريحية بحتة - ومع استثناء الأمراض الجينية الناتجة عن الخلل في عدد الكروموسومات - لدينا خمسة أجناس:
1- أنثى.
2- ذكر.
3- أنثى تملك أعضاءً خارجية ذكرية (ذكر لكن أنثى بيولوجية).
4- ذكر يمتلك أعضاءً خارجية أنثوية (أنثى لكن ذكراً بيولوجياً).
5- إنسان لديه نسختا الأعضاء (قد يكون ذكراً أو أنثى).
في الحالات الثلاثة الأخيرة لا يشعر الإنسان بأنه يعيش بجنس مغاير لتركيبه الجيني، فقد يعيش الذكر على أنه أنثى طيلة حياته ولا يشك في الأمر البتة، أو تعيش الأنثى على أنها ذكر طيلة حياتها لمجرد أن هيئتها الخارجية تنم عن ذكر، ولا يكتشف أي منهما الأمر إلا بعد إجراء اختبار جيني.
كان هذا السبب هو الذي دفع الاتحاد الدولي عام 2000 لوقف إجراء الاختبار الكروموسومي للنساء المشاركات في الأولمبياد.
اتُّهمت بطلة الملاكمة الجزائرية إيمان خليف بأنها ليست أنثى، اتهمها البعض بأنها ذكر بيولوجياً (الفئة 4)، بينما قال آخرون إنها تنتمي للفئة 5، فكيف يمكن علمياً تفنيد تلك الادعاءات؟
تناقلت أخبار مشاركة الجزائرية إيمان خليف لاعبة الملاكمة، وانتصارها على نظيرتها الإيطالية أنجيلا كاريني مسامع العالم؛ إذ انسحبت الأخيرة بعد 46 ثانية من بدء المباراة، وعقبت تالياً أن «تلك اللكمة كانت أقوى ما تَلقَته في مسيرتها على الإطلاق».
لم يهتم العالم لتاريخ كاريني المليء بمحاولات جذب الانتباه، فلم تكن تلك مرتها الأولى التي تخيط فيها الأكاذيب لإرباك خصمها، فقد قامت بلَيِّ كاحلها عمداً في أوليمبياد طوكيو حين وجدت نفسها على وشك الخسارة أمام غريمتها التركية.
هذه المرة أرادت تكرار الأمر نفسه مع إيمان، فانسحبت منذ البداية، لتدعي أن تلك اللكمة التي تعرضت لها لا يمكن إلا أن تكون لكمة رجل، وفي غضون ساعات تناهى الأمر إلى مسامع العالم أجمع، فوصل إلى أشخاص مثل دونالد ترامب، وإيلون ماسك، وبالطبع أدان الجميع إيمان وصدقوا أنها رجل بيولوجي!
اعتمد الجميع في إدانته لإيمان على قصة استبعاد الرابطة الدولية للملاكمة لإيمان من مباراة نهائية العام الماضي، بحجة أنها لم تستوفِ المعايير الأهلية اللازمة، وأنها امتلكت مزايا تنافسية على المنافسات الأخريات، حارمين إيمان من فوزها بالميدالية الذهبية، ونُشرت قصة - تبين خطؤها لاحقاً - عن قيام الرابطة وقتها بإجراء اختبار لهرمون التستوستيرون ليتضح زيادة نسبته عند كل من إيمان وملاكمة أخرى، لتُستبعَد كلتاهما.
أعلنت مؤخراً رابطة الملاكمة أن الاختبار لم يتضمن أي تستوستيرون، وإنما كان اختباراً خاصاً رفضت الإعلان عنه، وعليه فكل تلك الأخبار التي انتشرت عن امتلاك الملاكمة إيمان خليف نسبة أعلى من هرمون التستوستيرون هي محض هراء. ولكن ماذا لو؟
هل يعد امتلاك رياضية نسبة أعلى من هرمون التستوستيرون كافياً لاستبعادها من المنافسة بدعوى امتلاكها ميزة بيولوجية أكثر من بقية المنافسات؟
حسناً، هناك حالات طبية ترد إلى أذهاننا عند الإجابة عن هذا السؤال:
1- متلازمة المبيض متعدد التكيسات:
من المعروف أن الرياضات العنيفة مثل رفع الأثقال تُخلف زيادة لحظية في هرمون التستوستيرون لدى جميع السيدات، لكن الأمر لا يحدث هكذا أبداً مع مريضات المبيض المتكيس. تظهر تلك المتلازمة في امرأة من بين كل عشر نساء تقريباً، وتُظهر المتلازمة اضطراباً في نسب الهرمونات، وقد تشمل تلك الاضطرابات زيادة في مستويات الأندروجينات، الهرمونات الذكورية لدى النساء مثل التستوستيرون.
ينصح الأطباء النساء بالتمرن من أجل معادلة تلك النسبة؛ إذ إنه وعلى غير المنطقي تماماً، تنخفض نسبة هرمون التستوستيرون عند التمرين في النساء المصابات.
تخيل معي رياضية مصابة بالمبيض المتكيس تُحرم من المشاركة في الأوليمبياد بسبب زيادة نسبة التستوستيرون لديها، لا يمنحها التستوستيرون أية ميزة إضافية، على العكس تماماً، لا يسلك هذا الهرمون مساره الطبيعي لدى هؤلاء المصابات، بل قد يحد أيضاً من ميزات التمرين.
2- متلازمة قلة الحساسية تجاه الأندروجين Androgen insensitivity Syndrome
تملك المصابات بهذا المرض كميات ضخمة من الهرمونات الذكرية في دمها، لكن كل تلك الكمية بلا فائدة، لأنهن يفتقرن إلى المستقبلات التي يرتبط بها الهرمون من أجل القيام بعمله، مرةً أخرى هل يعد استبعاد مثل هؤلاء اللاعبات بسبب زيادة هرمون التستوستيرون سبباً عادلاً؟
إنه يمنحهن مجدداً نقمة، وليس ميزة بيولوجية.
إذا افترضنا خلو المشاركات من أي من تلك المتلازمات، ومن أي مرض من شأنه أن يتلاعب بنسب التستوستيرون، هل يصبح وقتها قياس التستوستيرون عادلاً؟
الإجابة مجدداً هي لا، فقد أثبتت الأبحاث أن النساء اللواتي يتمرن أكثر يملكن مستويات أعلى من التستوستيرون؛ لذا استبعادك فتاة من الأوليبمياد لأنها تتمرن كثيراً، وادعاؤك أن تلك ميزة بيولوجية، مثل استبعادك لاعب كرة سلة لأنه طويل القامة.
عند التعمق في الكواليس الخفية لعالم الرياضة، ندخل دهاليز لا تقل متاهاتها عن سياسات دول بأكملها، لقد تحققنا أن مستوى هرمون التستوستيرون يجب ألا يلعب أي دور في تحديد أحقية اللاعبات في المشاركة، وأن العديد من المتلازمات تحتم منع إجراء أي اختبارات جينية للاعبات، فلماذا استُبعِدت إيمان خليف من ذهبية العام الماضي؟
الإجابة هي التنافس خارج ساحات الحلبة، ثمة تاريخ من الصراع بين اللجنة الأولمبية والاتحاد الدولي للملاكمة، يمتد آخر عدة سنوات، يعاند على أثره أحدهما الآخر، لقد كان استبعاد إيمان خليف ويو تينغ لين قبل ساعات من ذهبية العام الماضي تحدياً بدأه اتحاد الملاكمة الدولي، الذي أعلن أنه أجرى اختبارات سرية عن هوية اللاعبات الجنسية، أي عقل يصدق أن يُقام اختبار مهم كهذا قبل ساعات من المباراة النهائية؟
حين ردت لجنة الألعاب الأولمبية عن نزاهة مشاركة كلتا اللاعبتين، لم يقف اتحاد الملاكمة مكتوف اليدين، بل أعلن منح جائزة مالية مساوية لقيمة الجائزة الذهبية الممنوحة في الأولمبياد للاعبة أنجيلا كاريني، بعد دموع التماسيح التي ذرفتها عقب مباراتها مع إيمان.
الخبر الأهم أن اللجنة الأولمبية تهدد بسحب مشاركات الملاكمة مستقبلاً من المحافل الأولمبية، وإقامة لجنة أكثر نزاهة لكيلا تحرم الملاكمات من المشاركة، كما شجعت الاتحادات المحلية على الاستقلال عن اتحاد الملاكمة الدولي، وبالفعل ظهر تيار منشق عن الاتحاد، ما يعني وميضاً لمستقبل أكثر عدلاً للاعبات مثل إيمان. لقد مرت إيمان بالكثير، حاربتها الظروف، وحاربها اتحاد الملاكمة، ورغم ذلك لا تزال صامدة، قوية، في وجه العقبات، وتمكنت من الانتصار عليها جميعًا بالقاضية.